إذا أحببت أن أتكلَّمَ اليومَ عن التعليم فلا بدَّ أن أتكلم معه عن التربية، فالتعليمُ ليس عمليَّة صناعيَّة أو عملاً آلياً؛ بل هو نظامٌ إنسانيٌّ محوره الأفراد، ولذلك تسمَّى الوزارة باسم وزارة التربية والتعليم، ولكن إذا أردنا أن نبحث في هذا المفهوم، وهل حقاً مخرجات المدارس تتوافق مع هذا الاسم؟يا ترى إذا ركزت على التعليم، وسألتُ: ما هو الفرق بين مدارسنا اليوم ومدرستي من أربعين سنة...؟وبشكل جاد فإنَّه ينتابني الخوف والذعر! ما الذي تغير في المدارس؟ طريقة التدريس أم المناهج والكتب أم شكل المدارس والصفوف أم أعداد الطلاب في الصفوف؟هل بالفعل يتخرَّج من مدارسنا جيلٌ متعلِّم أو جيلٌ دارس؟هل مدارسنا الحالية تربويَّة تعليميَّة تواكبُ مسيرة العلم التي وصلنا إليها أو أنَّها فقط وسيلة لإيصال المعلومة؟هل ما يحصل عليه هذا الجيل من تربيةٍ وتعليمٍ ومهارةٍ تؤهِّلهُ لإيجاد مكانٍ له في سوق العمل والمشاركة بالتطوير والابتكار والإبداع؟هل الطالبُ بحاجة لقضاءِ اثني عشر عاماً من عمره في المدرسة قبل الالتحاق بالجامعة؟أسئلة كثيرة أطرحها وأتناول بعضها للإجابة عليها.بدأت الثورة الصناعيَّة الثانية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وكان من نتائجها الاجتماعيَّة تأسيسُ المدارس على شكلها الحالي والمستمر حتَّى الآن مع بعض التعديلات الثانويَّة على المنهاج وطريقة التدريس وإيصال المعلومة، وكذلك على الأبنية ورفاهيتها وغير ذلك من الأمور البسيطة.كان هذا النظام مطلوباً من الرأسمالية لإيجادِ كوادرَ بشريَّة تغطِّي احتياجاتِ الصناعة في ذلك الوقت، ولكي تبقى الرأسماليَّة مهيمنةً على هذه الكوادرِ من حيث المدخلاتِ من علمٍ وتربيةٍ وسلوكٍ، وتتحكَّم بالمخرجات بطريقةٍ (حضاريَّة) عن طريق هذه المدارس، حيث يتمُّ تربية وتعليم وتهيئة جيلٍ بعدَ جيل كما هو مخطَّط له من قبل هذه الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الوقت عام 1870.ها نحن اليوم بدأنا بالثورة الصناعيَّة الرابعة، حيث ظهرت تقنيات الروبوتاتِ والذكاءِ الاصطناعي وأنترنت الأشياء وغير ذلك، وأصبحت شهاداتُ الجامعات بلا قيمة؛ حيث أنَّه حالياً يتمُّ توظيف الكفاءات والمهارات وليس الشهادات، فأكبر شركاتِ العالمِ مثل غوغل والتي لها ميزانيَّة تعادل أكتر من ميزانيَّة عشرِ دولٍ مجتمعة لديها نصف الموظفين ليسوا من أصحاب الشهادات الجامعية.هدف التعليم هو التعلُّم وليس النقاط أو العلامات العالية كما هو عليه الحال اليوم، هناك فرقٌ بين المهمة والإنجاز من ناحية الأفعال، يمكنك اتِّباع حمية غذائيَّة ولكن هل الكل يفقد الوزن؟ بالطبع لا.أين ابني؟ إنه يدرس ويقضي الساعات الطوال في ذلك ولكن... هل يتعلم؟هناك أزمة تعليم عالميَّة.. ففي كلِّ بقاع الأرض التعليمُ له نفس النظام، ولكن هذا ليس تعليماً وإنَّما تدريس، فالتعليمُ هو مهنةٌ إبداعيَّة، فهو ليس تلقينَ أو تمريرَ معلومةٍ لكلِّ الأطفال بمنهجيةٍ واحدة، فأطفالنا لكلٍّ منهم شخصيَّته وميوله ومواهبه، فإذا كان لديَّ طفلانِ فلكلِّ واحدٍ منهما سماتٌ مختلفة تماماً عن الآخر، ولن أقول لأحدهما: ذكِّرني، أنت من بينهما؟التعليم الحالي لا ينطبق على التنوُّع وإنَّما على التطابق، وهنا تكمن المشكلة الحقيقة، فالأطفال يزدهرون بشكل أفضل مع منهجٍ دراسي واسع يحتفي بمواهبهم المختلفة وليس مجرد منهاج محدد.في فنلندا أخذ التعليم الدرجة الأولى عالمياً لأهم سببٍ وهو أنَّهم جعلوا التعليم والتعلُّم فرديَّاً، فالتلاميذ هم من يتعلمون والنظام يشاركهم ويشارك فضولهم وفرديَّتهم وإبداعهم وبتلك الطريقة يدفعونهم للتعلُّم.وختاماً إذا أردنا أن نصنعَ جيلاً مميزاً فعلينا ألا نلغي الفروق الفرديَّة لكلِّ واحدٍ من أبنائنا، بل نعرفَ نقاط قوَّتِه وتميُّزَه ومواهِبه ثمَّ نطوِّرُها، فكيف لي أن أدير نفسي وأطوِّرها وأنا لا أعرف أهمَّ نقاط قوتي وميزاتي ومواهبي، فليست الرغبة أو الشغف هما الأساس في النجاح؛ بل هو مايعرف لكل منَّا بنقاط تميزه ومواهبه وهواياته، إضافة إلى أنَّه إذا لم يؤطَّر التعليم بالقيم فهو فارغ أجوف، فهناك علم يُحمَل وهناك علم يُستعمَل، وأخيراً لا بدَّ لنا من إعادة رسم منهجية جديدة للتربية والتعليم لنستطيعَ تربية جيلٍ مميَّزٍ يواكب عصرنا الحالي.
Developed and Designed by VEGA-2024
جميع الحقوق محفوظة لمدرسة الفاتح الالكترونية / 2024